الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ينبغي على المسلم أن يكون الدليل سلاحه في معرفة الأشياء:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والعشرين من دروس العقيدة، لازلنا في موضوع الإيمان بالرسل، والآن ننتقل إلى فصل جديد عنوانه: دلائل الرسالة، وكنت ذكرت لكم من قبل أن على الإنسان الواعي ألا يقبل شيئاً إلا بدليل، وألا ينفي شيئاً إلا بدليل، وقد قال العلماء: إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مبتدعاً فالدليل، إذا نقلت عن أي إنسان فتوخى الصحة، لعل هذا القول الذي تنقله عنه ليس صحيحاً، لذلك كان علماء الحديث رضي الله عنهم، بذلوا جهوداً جبّارة في معرفة الخبر الصادق من الخبر الكاذب، وصنفوا الأحاديث، الأحاديث المتواترة في النص، والمتواترة في المعنى، والأحاديث الصحيحة، وأحاديث الآحاد، والأحاديث الحسنة، والأحاديث الضعيفة، لأن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
فأنا قبل أن أمضي في الحديث عن دلائل الرسالة أريد أن أُلقي على مسامعكم هذه الملاحظة، أكثر من أخ أو أكثر من عشرة إخوة في كل أسبوع تقريباً يقولون لي: هل هذا حرام؟ لمَ هو حرام؟ فلان قال: حرام، اسأله عن الدليل؟ هذا الذي قال لك إن هذا العمل حرام اسأله ما الدليل؟ أن تأخذ دية أخ قتل في حادث حرام؟ اسأله: ما الدليل؟ هل عندك آية أو حديث أو حكم فقهي لإمام عظيم من أئمة الفقه ينهى عن ذلك؟ فالملاحظ أن أكثر الناس يُقال له: حرام فيصدق، يُقال له: حلال فيصدق، لا تقبل أن يكون الشيء حلالاً إلا بدليل من الكتاب أو من السنة أو من الإجماع أو من القياس، وإن لم تستطع أن تستنبط أنت الدليل فاسأل أهل الذكر، اسأل العلماء، اسأل الفقهاء، ما رأي الإمام أبي حنيفة؟ ما رأي الإمام الشافعي؟ ما رأي الإمام أحمد؟ هناك أئمة عظام درسوا النصوص، ومحصوها، وصنفوها، واستنبطوا منها الأحكام، وإذا قيل لك: هذا شيء حرام، ما الدليل؟ إذا كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدّعياً فالدليل، أنا أدّعي أنه كذا وكذا، ما الدليل؟ أُثبت هذا، ما الدليل؟ أنفي هذا، ما الدليل؟ أؤمن بهذا، ما الدليل؟ أنكر هذا، ما الدليل؟ إذا كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدّعياً فالدليل، لعل هذا الذي تنقل عنه لم يقل شيئاً، لعل هذا القول الذي تقوله مُزَور عليه، بريء منه.
لذلك هناك أشخاص جانبوا المنهج العلمي، أي قرأ في الفتوحات كلاماً يتعارض مع كتاب الله، فقال الشيخ الأكبر هو الشيخ الأكفر، هذا تسرع، هذا سلطان العارفين، ولكن هذا الذي قرأته في كتاب الفتوحات ليس للشيخ محي الدين، لم يصح نقله عنه، لم يصح هذا القول له، إذا كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدّعياً فالدليل، فإذا الشخص مرّن نفسه، وطن فكره على ألا يقبل شيئاً إلا بدليل، وألا ينفي شيئاً إلا بدليل، وألا يقبل خبراً إلا إذا توافرت شروط الصحة، وألا ينفي خبراً إلا إذا قام الدليل على كذب الناقل، انتهى الأمر، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا، وطن نفسك ما أكثر الأقوال! ما أكثر من يدّعي العلم! هذا حرام، لماذا هو حرام؟ الله عز وجل أعطانا فكراً، أعطانا عقلاً كي نستعين به على فهم أمر دينه، وقد قيل: قِوام الرجل عقله، ومن لا عقل له لا دين له، ومن لا دين له لا عقل له.
الآن موضوع الدرس دلائل الرسالة، متى يجب الإيمان بالرسل؟ العلماء قالوا: متى ثبت لديك بالدليل القاطع، يوجد عندنا دليل مُقنع، يوجد دليل ظني، يوجد دليل قاطع، أعلى أنواع الدلالة هو الدليل القاطع، تألق هذه المصابيح دليل قاطع على أن في الخطوط كهرباء، حركة السيارة دليل قاطع على أن في المستودع وقوداً، هذا دليل قاطع، فلذلك متى ثبت لديك بالدليل القاطع أن واحداً من البشر رسول من عند الله يُبلّغ ما أمر الله تبليغه للناس، وجب عليك الإيمان به، ووجب عليك اتباعه، والائتمار بأمره، والانتهاء عما نهى عنه في حدود شروط رسالته، وشروط العمل بها.
أي إذا كنت جندياً في قطعة عسكرية، وجاءك إنسان يحمل كتاباً فيه أمر عسكري، أنت بحسب نظام الجندية يجب أن تأتمر بهذا الكتاب، بما جاء في هذا الكتاب، ويجب أن تنتهي عما نهى عنه هذا الكتاب، بحكم نظام الجندية، بقي أن تعرف أن هذا الكتاب صحيح من عند من هو أعلى منك، تنظر في فحواه، تنظر في الذي جاء به، هناك أدلة تجعل هذا الكتاب عندك مقبولاً، وهذا الذي جاء به مُصَدّقاً، فلذلك متى ثبت لديك بالدليل القاطع أن واحداً من البشر رسول من عند الله يُبلغ ما أمر الله به تبليغه للناس وجب عليك الإيمان به، ووجب عليك اتباعه، والائتمار بأمره، والانتهاء عما نهى عنه، في حدود شروط الرسالة وشروط العمل بها، فليس كل إنسان يدّعي النبوة أو الرسالة نُسَلِّم له بدعواه حتى تتوافر فيه شروط صدقه.
أدلة الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام:
العلماء قسّموا أدلة الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام إلى أربعة أدلة: الأمر الأول أول دليل على صدق رسول الله في أنه رسول الله، أول دليل على صدق نبوته ورسالته فحوى رسالته، المضمون، تأمل في المضمون، فأي إنسان إذا نظر بإمعان العاقل المُنصف فيما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من دعوة التوحيد، من بيان لأصول العبادات، ونُظم المعاملات، ومناهج الأخلاق، أي إنسان تأمل في هذه المبادئ وهذه العقائد وهذه النظم وهذه المناهج التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يراقب موافقتها لصالح الناس، وسعادتهم في شتى مطالب حياتهم، في دنياهم وفي أخراهم، ويرى أن كل جزئية موافقة للحق بلا مِرية، فلا تناقض في النصوص، ولا ضعف في أصول الشريعة، ولا فروعها، إذا نظرت هذا النظر، ودققت هذا التدقيق، وعرفت هذه المعرفة، لاشك أنك تُسْلِم وتُسَلّم وتعتقد وتؤمن أن هذا الذي جاء بهذا الشرع العظيم، وهذا الدستور القويم، وهذا المنهج المُفصَّل هو رسول من عند الله سبحانه وتعالى.
أي أول دليل النظر في فحوى الرسالة، هذا الكتاب من فلان، معقول، أي مضمون الكتاب، منهاج الكتاب، أسلوب الكتاب، محتوى الكتاب، بنود الكتاب، مضامين الكتاب، هذه في مستوى المرسل، لذلك الدين من عند الله، والله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض، خالق السماوات والأرض الكل عبيده، فالدين الذي يدعو إلى المساواة بين الناس هو دين الله، الله سبحانه وتعالى رحيم، وهذا الكون كله ينطق برحمته، فالدين الذي يدعو إلى التراحم هو دين الله عز وجل، الله سبحانه وتعالى عادل، فالدين الذي يدعو إلى العدالة هو دين الله سبحانه وتعالى، أي يجب أن يكون هناك تناسب بين عظمة الخالق وبين عظمة التشريع، فلابد من أن تعرف عظمة التشريع من عظمة الخالق، ولابد من أن يَشِف لك تشريعه عن عظمته، وعظمته مقياس لتشريعه، إذاً هذا دليل كبير جداً على صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو أن في الدين أمراً يخصّ أمة دون أمة، فئة دون فئة، قوماً دون قوم، طبقة دون طبقة، لما كان هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى لأن: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالهِ، فإذا نظر الإنسان في أصول هذه العقائد، في أصول هذا الدين، في أصول هذه العبادات، في نُظم المعاملات، في مناهج الأخلاق، يكتشف أن هناك تناسباً بين هذا التشريع العظيم وبين خالق الكون.
لذلك الشيء الذي أُضيف على الدين وليس منه يتهافت، يتساقط، يتداعى، لا يقف على قدميه، لا ترتاح له، لا تطمئن إليه، تُحسّ أن هذا ليس من عند الله،، الله رحيم، الله عليم، الله غني.
قال له: هل تحب أن نريحك من الزكاة؟ قال له: كيف؟ قال له: ضع المبلغ الكبير هل الثمانية آلاف ليرة في رغيف خبز، وقدمه لفقير، وقل له: هبني هذا الرغيف بخمس ليرات، يهبك إياه، تكون دفعت زكاة مالك واسترددته، ليس هذا دين الله، الذي أمرك بالزكاة يراك، هذه الحيلة لا تنطلي عليه.
تُحب أن تُقرض الناس بالربا؟ كيف؟ بطريق شرعي، كيف؟ اشترِ كيس سكر، ضعه أمام الحانوت، يأتيك الرجل ليقترض منك مثلاً ألف ليرة، تبيعه هذا الكيس بألف ليرة ديناً، وتشتريه منه بثمانمئة ليرة نقداً، والكيس ما زال بمكانه، هذا بيع صوري، هذا حيلة على الربا، لذلك منع الفقهاء هذا البيع سدّاً للذريعة، من باب سدّ الذرائع مُنِع هذا البيع، هذا بيعٌ ما أُريد به البيع، أُرِيد به الربا، خالق الكون لا تنطلي عليه هذه الحيل، لذلك هناك علماء رفضوا مبدأ هذه الأساليب، لأنها حيل شرعية لا تنطلي على الله سبحانه وتعالى، أتريد أن تشاهد زوجة أخيك؟ كيف؟ شيء سهل، بنت صغيرة من بنات الحي ولو كان عمرها سنتين، أو سنة ونصف، ادفعها إلى زوجة أخيك كي تُرضعها، ثم اعقد قِرانك عليها، فإذا زوجة أخيك أم زوجتك تحرم عليك على التأبيد، ثم طلق هذه الصغيرة تصبح زوجة أخيك بمثابة أم زوجتك المطلقة، لك أن تراها، وتلتقي بها، وتأكل معها، وتسكن معها في بيت واحد، هذه حيلة شرعية، هذا زواج صوري، لم يُقصد منه الزواج الحقيقي، ليس هذا دين الله، الذي شرّع الدين لا تنطلي عليه هذه الحيل.
لذلك كل من سار في هذا المنهج سار في منهج مسدود، في طريق مسدود، سار في طريق خاطئ، الشيء الذي يُلفت النظر أن أي مؤتمر عام تشريعي لو أنّه ضمّ عشرات العلماء الكبار في القانون، وشرّعوا تشريعاً، تجد بعد حين يُضطرون إلى تشريع مُعدّل، تُعدّل المادة الفلانية بالمادة الفلانية، بعد شهرين أو أكثر يصدر تعديل آخر، بعد التعديل تعديل، ثم يصبح هذا التشريع ركاماً من التعديلات، هذا صنع البشر قال الله:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾
مهما اجتهد الإنسان في سدّ المنافذ يأتي إنسان أذكى ويفتح بعض المنافذ، فلذلك المُشرِّع دائماً واقع في دوامة مع المشرَّع له، المُشرِّع يُغلق عليه كل المنافذ ويأتي المُشرَّع له ويفتح عشرات النوافذ والمنافذ، فلأن المشرِّع إنسان، لكن المشرِّع إذا كان هو الله سبحانه وتعالى تشريعه لا يحتاج إلى تعديل، ولا إلى تبديل، ولا إلى إلغاء، ولا إلى تعطيل، ولا إلى شيء من هذا القبيل، تشريعه جامع مانع.
النظر في فحوى رسالة النبي الكريم:
إذاً أول دليل يقوم على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوم على صدق رسالته أن تنظر في فحوى رسالته، في الأوامر، بماذا أمر؟ أمر بغض البصر، أمر بالصدق، أمر بالأمانة، أمر بحُسن الجوار، أمر بصلة الرحم، أمر بالإحسان، أمر أن تقول للناس حسناً، عن أي شيء نهى؟ نهى عن الكذب، نهى عن الفسق، نهى عن الظلم، نهى عن الفجور، نهى عن الخيانة، نهى عن عقوق الوالدين، نهى عن الظلم، هذا تشريع إلهي، إذا نظرت في الدين في فحوى الرسالة تعرف أن الذي جاء بها رسول من عند الله، بالدليل القاطع لأن هذه الأوامر وهذه النواهي تتناسب مع عظمة الله جلّ جلاله، تتناسب مع أمره، أي أنت لو قرأت كتاباً، أمر من موظف له شأنه أو له قيمته، إذا كان الأمر منطقياً فيه اعتدال، فيه توازن، فيه واقعية، فيه رغبة بخدمة الناس، فيه صلاح الناس هذا الأمر، تُحسّ أن هذا الأمر أمر هذا الإنسان، فإذا كان هناك أخطاء كثيرة، إذا كان هناك تجنّ على إنسان دون إنسان، تُحسّ أن هذا الأمر مزور ليس من عنده، لا يُعقل أن يُصدر هذا الإنسان العظيم هذا الأمر، إذاً الدليل الأول أن تنظر في فحوى الرسالة، لذلك النجاشي رضي الله عنه حينما سأل سيدنا جعفر رضي الله عنه، قلت: رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه صلى عليه صلاة الغائب، ولأنه حينما قَدِم وفد النجاشي خدم النبي وفد النجاشي بنفسه مكافأة لحُسن صنيعه مع أصحابه،
(( فسيدنا جعفر قال: أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي بالفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوّحده. ))
معقول كما حدثتكم في الدرس الماضي أن نُقدّس الكلاب، نُطعمها ألذّ الطعام، نضع في أعناقها الورود، لأنها تحرس الجنة، فإذا كان لنا عندها صنيع نحتال بهذا فندخل الجنة؟ لذلك هنالك شعوب تزيد عن سبعمئة مليون تسجد للكلاب كل عام، هذا دين؟ وهناك شعوب أو هي نفسها يموت منها في العام الواحد ما يزيد عن مليون من الجوع، وعندها ثلاثمئة وستون مليون بقرة، إذا قَتَل الإنسان هناك بقرة يُحكم عليه بالسجن مدى الحياة، البقر يأكل ويشرب والناس يموتون جوعاً أهذا هو الدين؟ شيء غير معقول، لذلك فحوى الرسالة، قال له: ((وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار)) شيء منطقي، كنا قوماً أهل جاهلية مَنّ الله علينا بهذا النبي، لذلك الدين كله مكارم أخلاق، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قِبَلك.
الدليل من الكتاب على صدق الرسول:
الآن هل في النصوص القرآنية ما يؤكد هذا المنهج في الإيمان برسول الله؟ أول فقرات المنهج أن تنظر في فحوى في مضمون هذه الرسالة، القرآن فيه جانب عقائدي، فيه جانب تشريعي، فيه تشريع شخصي، علاقة الزوج بزوجته، تشريع الطلاق، تشريع الزواج، فيه جانب اجتماعي، علاقة الأخ بأخيه، فيه جانب يُنَظّم حياة الجماعة، البيع، الشراء، الرهن، الدين، الأمانة، فيه جانب تربوي، فيه جانب اقتصادي، فيه جانب صحي، فيه جانب اجتماعي، فيه جانب دولي، هذا القرآن بمضامينه الكبرى إذا تأملته وتدبرته ونفذت إلى لبّه تعرف أن الذي جاء به رسول من عند الله سبحانه وتعالى، نادى الله الناس أن يؤمنوا بالرسول متحققين صدقه من خلال ملاحظتهم للحق الذي جاء به من عند ربهم، هذه فكرة، الآن الأدلة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)﴾
آمن بما جاء به من الحق من ربك، ووجَّه الله بشدة الإنسان إلى تدبُّر القرآن، لأن تدبره يهدي إلى أنه حقّ في كل جُزئية من جزئياته، وهذا يدل على أنه من عند الله، لأنه لو كان من كلام الإنسان لاشتمل على اختلاف كثير، ومفارقات ظاهرة بينه وبين الحق، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم هو المُبّلغ لهذا القرآن، كان ذلك دليلاً على أنه رسول الله يُبلّغ عنه كلامه، فبعد أن قال الله عزّ وجل لرسوله في سورة النساء:
﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)﴾
أما هذه آية دقيقة جداً﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾ واضحة، ما معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أي هذا القرآن الذي جئت به، لو تأمله الناس، لو تدبروه، لو عقلوه، لو دققوا فيه، لعرفوا أنك رسول، فالله شَهِد لهم من خلال كلامه أنه رسول، وقد جعل الله سبحانه وتعالى طاعة الرسول طاعة له فقال تعالى:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)﴾
يوجد انسجام، يوجد تكامل، القرآن يُقدّم تفسيراً شاملاً للكون والحياة، لما كان عليه الإنسان قبل أن يأتي إلى الدنيا، لما سيؤول إليه وضع الإنسان، قيم الحق والباطل، قيم الخير والشر، هذه كلها جاء بها الدين، أعطاك تفسيراً دقيقاً فدلّ بهذا على أن القرآن شاهد من عند الله على صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الكتاب بما فيه من مضامين تشريعية، وتربوية، وصحية، واجتماعية، وشخصية، ودولية، هذا القرآن يؤكد أنه من عند خالق الأكوان.
الأمر اﻹلهي لرسوله بأن ينادي بالناس جميعاً بأنه رسول الله إليهم:
شيء آخر؛ أن الله سبحانه وتعالى بيّن صفة أُولي الألباب الذين أعلنوا إيمانهم بالرسول الذي ناداهم إلى الإيمان بالحق، وبادروا إلى ذلك مذ عرفوا أن جوهر رسالة محمد صلى اله عليه وسلم حقّ لا مِرية فيه، قال تعالى:
﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)﴾
إذاً لازلنا في المضمون، وأمر الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُنادي في الناس جميعاً بأنه رسول الله إليهم جميعاً، وأن يبين لهم أن جوهر الرسالة هو الإيمان بالله الذي له ملك السماوات والأرض، والذي لا إله إلا هو، والذي يحيي ويميت، ثم التفت الله إلى الناس فأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ، لافتاً نظرهم إلى أن هذا الرسول فردٌ مثلهم يؤمن هو أيضاً بالرسالة التي يحملها إليهم فيؤمن بالله وكلماته، لذلك فعليهم أن يتبعوه ليهتدوا، قال تعالى في سورة الأعراف:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)﴾
دعوة أهل الكتاب إلى اﻹيمان بهذه الرسالة:
شيء آخر وأخير هو أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله محمداً أن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة الحق، التي هي سواء بين جوهر رسالته وجوهر رسالات موسى وعيسى وسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾
كل هذه الفقرات لها محور واحد، وهو أنك إذا دققت وتأملت وتعمقت وتدبرت في مضمون الرسالة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، تحكم بالدليل القاطع على أنه رسول الله، انتزع إعجابك بما جاء به من حقائق دقيقة وأدلة وبيان، فهذه المحاضرة تؤكد كلامه.
2- يتميز عليه الصلاة والسلام بشخصية غير عادية شملت الكمال الإنساني:
الآن الدليل الثاني على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول من عند الله: لدى دراسة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم نلاحظ أن له شخصية فذّة غير عادية، أحياناً تجلس في مجلس، تشاهد شخصاً متفوقاً متميزاً من حديثه، من ملاحظاته، من أسلوبه في الحديث، من لغته، من ثقافته، فلو أنك التقيت بالنبي عليه الصلاة والسلام لرأيت شخصية فذّة غير عادية، لذلك قالوا: محمد سَحَر أصحابه، أي انتزع إعجابهم، لأنه شخصية فذّة، والله سبحانه وتعالى لا يصطفي لرسالته إلا صفوته من خلقه:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام سَحَر أصحابه بمعنى أنه انتزع إعجابهم، تعلقوا به أيما تعلق، أحبوه حباً فاق حدّ التصور، أطاعوه طاعة جاوزت حدود الخيال، لماذا؟ لأنه شخصية فذة، أي ما التقى به رجل من أصحابه إلا ظنّ أنه أقرب الناس إليه، هذا شيء يفوق طاقة البشر، فهذه الشخصية الفذة غير العادية لا نجد لها نظيراً إلا في زمرة الأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى لوحيه ورسالاته، ذلك أن شخصية النبي عليه الصلاة والسلام مصونة بالعصمة الربانية من جميع جوانبها، ومتصفة بصفات الكمال الإنساني في خُلقه وسلوكه، وعصمته عن الخطأ في بيان حدود الصراط المستقيم لعقائد الناس وعباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم.
أما إذا درست شخصية أخرى من الشخصيات التي تميزت في الأرض لوجدت على الرغم من عبقريته سقوطاً في بعض جوانب شخصيته، سقوطاً في أقواله أو أفعاله أو أخلاقه، لابد من جانب متميز وجانب مُقصّر، ليس هناك كمال مطلق، ليس هناك عصمة، ليس هناك إعداد رباني لهذا الإنسان، هناك تفوق في جانب وتخلف من جانب آخر، قد يعجبك علمه وتحتقر أخلاقه، قد يُعجبك خلقه وتحتقر علمه، فالذين نبغوا في الحياة نبغوا بجانب على حساب جانب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد استكمل الكمال البشري من كل جوانبه، فمن اتّصف بهذه الصفات الراقية والكمال الإنساني لابد أن يكون رسول الله سبحانه وتعالى.
شهادة التاريخ لرسول الله على أنه رسول الله من خلال أخلاقه وصفاته:
نزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء، أول ما بدِئ به من الوحي، وكان لنزول الوحي وقْع ثقيل على نفسه، فرجع إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده، ويقول: زملوني زملوني، فزملوه حتى إذا ذهب عنه الروع، قال يا خديجة مالي؟ وأخبرها بما رأى، فقالت خديجة: كلا يا بن العم، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديث، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، هذه الصفات، هذه الشخصية الفذة، والله لا يخزيك الله أبداً.
الدليل الثاني شخصيته، الدليل الأول رسالته، رسالته فحواها تتناسب مع عظمة الخالق، الآن شخصيته الفذة بفضائلها، وقيمها، وطباعها تتناسب مع شخصية رسول الله سبحانه وتعالى، فخديجة رضي الله عنها استدلت من خلال كمال صفاته التي تعرفها فيه أن الله لا يخزيه أبداً.
سيدنا الصديق رضي الله عنه لم يحتج إلى أدلة تدله على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعاه إلى الإسلام، لأنه عرف عنه الكثير، النبي عليه الصلاة والسلام كان ذا شخصية فذّة قبل أن تأتيه الرسالة، كان كريماً، كان صادقاً، كان أميناً، كان عفيفاً، كان ذا نسب رفيع، كان لا يلهو مع من يلهو، إذا دُعِي إلى اللهو قال: لم أخلق لهذا، كان يحب الخير، كان قلبه رقيقاً، فهذه كلها صفات تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: يا خالد: صف لنا محمداً؟ فقال: بإيجاز أم بإطناب؟ فقالوا: بإيجاز، فقال: هو رسول الله، والرسول على قَدرِ المرِسل، رسول الله، الله خالق الكون، فيجب أن تكون صفاته متناسبة مع الذي أرسله، هذا بالإيجاز.
ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى بطون مكة، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني فلان، فلما اجتمعوا قال لهم:
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلا صِدْقًا، قَالَ؟ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. ))
إذاً أجمع الناس الذين عاشوا معه على أنه صادق لا يكذب، إذاً شخصيته الفذة، وصفاته الفضلى، وكرائم طباعه، هذه تؤكد أنه نبي رسول من عند الله.
ملك عُمان لما بَلَغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، ماذا قال؟ قال: والله لقد دلني على هذا النبي الأميّ –دققوا جيداً-أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، يفتخر رجال الدين في بعض الأديان الأخرى أن يا أخي رجال الدين خذوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم، هذا كلام باطل، كيف آخذ منك وأنت تخالف قولك؟ كيف أثق بقولك وأنت تخالفه؟ قال: والله ما دلني على هذا النبي الأميّ أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يظفر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، ويُنجز الوعد، وأشهد أنه نبي، هذا دليل، أخلاقه الدليل.
العلاء الحضرمي دعا المنذر بن ساوى أمير البحرين قال له: يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغُرنّ عن الآخرة، كثير أشخاص في الدنيا شخصية فذّة، معه شهادة عليا، يحتل منصباً رفيعاً، حكيم، هادئ، إذا كنت عزيزاً في الدنيا فيجب أن يهديك عقلك إلى أن تكون عزيزاً في الآخرة، فقال: يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغُرنّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شرّ دين، فكان مجوسياً، ليس فيها تكرُّم العرب، ولا علم أهل الكتاب ينكحون ما يُستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يُتَنزه عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألا تُصدّقه؟ وهو النبي الكريم، ولمن لا يخون ألا تأمنه؟ ولمن لا يُخْلف ألا تثق به؟ هذا هو النبي الأمي، الذي لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه، إذ كل ذلك منه ممتنع فانظر وفكر في أمر هذا النبي، من أخلاقه، من معاملته، من طيب نفسه، من تواضعه، من كرمه، من حيائه، من رحمته، من إنصافه، من عدله، أخلاقه دليل، ورسالته دليل.
الحقيقة القصة الدقيقة أخرجها الشيخان عن ابن عباس، أن أبا سفيان أخبره أن هرقل عظيم الروم أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام، أي أبو سفيان كان في الشام مع بعض التجار وكان على الشرك، بعث إليه هرقل عظيم الروم يستدعيه، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعادي بها أبو سفيان، كان أبو سفيان عدواً لدوداً لرسول الله، فأتوه، فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجُمان، فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعُم أنه نبي؟ يبدو أن هرقل عظيم الروم جاءته أخبار عن السيد الأعظم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبلغه أن في بلاده تجاراً من مكة يلوذون به، فرأى أن يلتقي بهم ليأخذ منهم الأخبار عن كثب، فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم به نسباً؟ كان مشركاً وكان عدواً لدوداً، وقد حاربه ثلاثة حروب، اسمعوا شهادة العدو، فقال: أدنوه مني وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، أي هو جعله أول واحد وجعل أصحابه عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء من أن يؤثّر عليّ كذباً لكذبت عنه.
سأل أبا سفيان أمام أصحابه وأبلغهم جميعاً إذا كذب فكذبوه، فصار كذب وفي حرج كبير، أما أبو سفيان قال: أتمنى أن أكذب وقتها، فهرقل عظيم الروم استدعى أبا سفيان وأصحابه وأجلسه أمامهم وأمر ترجمانه أن إذا كذبني فكذبوه، قل لهم لهذا الوفد: إذا كذبني هذا الرجل أبو سفيان فكذبوه، وقال عندئذ: : إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء من أن يؤثّر عليّ كذباً لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: والله هو فينا ذو نسب، أي نسبه عال، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلَك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سُخطاً لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، حتى يوغر صدره قال: في غيابنا لا ندري ماذا يعمل؟ إلى أن غادرت مكة لم يغدر أما بغيابنا لا أدري، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجال، ينال منا وننال منه، قال: فبماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له: سألتك: عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبعث في نسبٍ من قومها، وسألتك: هل قال أحدٌ منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجلٌ يتأسّى بقول قبله، وسألتك: هل من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب مُلك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله عزّ وجل، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل عادة، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد منهم بعد أن دخل في الدين؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تُخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.
كان عاقلاً وكان ذكياً جداً، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أَخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله، في الوقت نفسه جاءه كتاب رسول الله الذي بعث به دُحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى-ليس سلام عليه على من اتبع الهدى-أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون، قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثُر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخرجنا، فقلت لأصحابي حين أُخرجنا: إن محمداً يخافه ملك بني الأصفر، فمازلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام، أي الملوك تخافه، فمازلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام، هذه قصة تؤكد أن الإيمان برسول الله قد يكون من أخلاقه الكريمة ومن صفاته الفضلى.
إذاً ملخص هذا الدرس نقطتان، دليلان كبيران على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأول فحوى رسالته والثاني أخلاقه، ففحوى رسالته تتناسب مع الذي أرسله، وأخلاقه الكريمة تتناسب مع الذي أرسله، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قال في حقه:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
بقي علينا برهانان ثانيان آخران في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، البرهان الأول فحوى رسالته، والبرهان الثاني أخلاقه الكريمة.
الملف مدقق